٤‏/٨‏/٢٠١٠

سيامند إبراهيم : ذكريات جميلة في عامودا (1-2)
 إلى روح المرحوم الأستاذ محمد صدقة، عاشق اللغة الكردية.

في الثمانينيات من القرن الماضي ومنذ البدء بزياراتي المتقطعة إلى الجزيرة قبل استقراري نهائياً في القامشلي فقد كنت أتردد على مدينة عامودا, حيث هناك نبع العطاء الأدبي باللغتين الكردية والعربية, فقد تعرفت على الشيوخ الأفاضل الشيخ سليم والشيخ عفيف الحسيني, وشيخ المترجمين توفيق الحسيني والشيخ سعد الدين السيدا وقائمة طويلة من إخواني الشعراء, الذين يكتبون باللغة العربية واللغة الكردية, وكانت حركة الأدب قوية ومزدهرة حيث طبعت العديد من المجموعات الشعرية باللغتين العربية والكردية لشباب عامودا, وكنت أوزع سلسلة تعليم اللغة الكردية, ومجلة آسو في عامودا وقراها. وفي محراب الشيخ عفيف كنا نسمع المناقشات الشعرية, و كنا نسأل عن حوادث عامودا القديمة, عن حركة علمائها, والكتب التي كانت على منضدة الشيخ من قواعد النحو والصرف وسجلات عامودا القديمة المهترئة, وكان الشيخ يفرح كثيراً ويسألني عن نشاطي وأخباري, ويسأل عن والدي وعن صحته وأخباره, وفي آخر مرة قبل رحيل والدي بعدة سنوات زرناه وبعد دقائق من التفكير تعرف الاثنان على بعضهما البعض, وقبلًا بعضهما البعض, واسترجعا الأيام الخوالي, أي في فترة بعد منتصف الأربعينيات حيث كان والدي الملا عبد الله حاجي إبراهيم الشمرخي, الملا نوري الكركي الأومري, والشيخ عفيف يدرسون العلوم الشرعية على يد العالم الكردي المرحوم (الملا عبد العزيز) وفي قرية (مستو هندي) التي تقع في غربي عامودا على اليسار من طريق الدرباسية, وتسكنها عشيرة ( البادينية) وكان الحاج محمود حسي هو الذي كان يتكفل بهذا العدد الكبير من (الفقه) العلم ويحبهم ويحترمهم رحمه الله. ومن محراب الشيخ عفيف كنت أذهب لزيارة بعض لاجئ تركيا, ومنهم الشاعر والمترجم الرقيق (دلدار شكو) الذي يقيم الآن في اقليم كردستان العراق, وهو الذي ساعد الأستاذ دحام عبد الفتاح في ترجمة حديث مع كردي للشاعر اليوناني (أدونيس بودريس) ومن هناك كنت أزور دار ومكتبة المرحوم الأستاذ محمد صدقة أقصى شمال ناحية عامودا, والذي كان يعرف الكثير من أسرار اللغة الكردية, ويتردد إليه الكثير من المشتغلين في اللغة الكردية, وكانت حركة نسخ الكتب في دكانه الصغيرة نشيطة, وهو كان يجمع الكتب الكردية النادرة باللهجتين الكرمانجية والصورانية, ويجلدها تجليداً أنيقاً, ومن الدواوين الشعرية الرائعة التي لم تطبع إلى الآن ديوان (الملا عبد السلام ناجي الجزيري) وقد صور لي ديوانه المؤلف من ثمان وعشرون صفحة, وقد أودعته في مكتبة بدرخان في مدينة حلب, وقد أعطاه صديقي محمد حمو لدار نشر من أكراد تركيا في استانبول ومنذ أواخر التسعينيات وإلى الآن لم يرى هذا الديوان النور؟! ولا زلت أحفظ أول بيت من ديوانه:" Ey kurdi hinde necari di desten her kesi de tar u mari وفي نهاية الديوان فقد خمس الملا عبد السلام قصائد من شعر الملا احمدي الجزيري, وقد روى لي والدي رحمه الله أن هذا الشاعر الكبير قد عقد هو الذي عقد قرانه على والدتي, وكان معجباً به, ولذلك فقد سماني عبد السلام على اسمه, وهذا فخر لي أيضاً, ورحمهم الله جميعاً. وعند ولوجنا إلى عامودا فقد كنا نبحث عن عبق الشعر الكلاسيكي الرائع, وعن هذه الدرر والجواهر التي كانت تخرج من حنجرة الشاعر الأديب الملا عبد الرحمن الكرمي العاشق لشعر الجزيري والخاني, والحريري, والملا باتيي, سيابوش, والملا النوري الهساري, وكنا نلتقيه في العديد من دور عامودا, وكان خجولاً جداً ومتواضعاً وعصبياً وكان يكتب الشعر لكن لم يكن يحبذ أن يقول لنا هذه هي قصائدي, ولا أعرف إن كان قد كتب قصائده أم لا ؟ والعلم عند صديقي الشاعر الرقيق الملا عبد الوهاب الكرمي؟ وحيث كان يتحفنا بصوته الرائع العديد من القصائد الكردية الجميلة. ومن عامودا كنت أتجه نحو قراها الجميلة حيث كنت أبحث عن أغاني الفلكلور الكردي والأمثال وكانت رحلتي إلى قرية (خالد) حيث كان هناك الفنان الشعبي (دمر علي) حيث كان يغني ويطربنا في ملحمة (سيامند وخجي) ومن هنا تعمق محبة اسم سيامند على قلبي أكثر من اسمي الحقيقي, وتطول الأيام والليالي إلى منازل الأحبة وإلى مرابع الطفولة, في سنجق سعدون, معمر لي, كندور, سيحا, سي متكا عزو, حيث كان أهل القرية الكرام يدعون لضيافتهم العلامة حسن هشيار ويقيم في ضيافتهم أيام وليال, ويتحفهم بشذرات من تاريخ الكرد وكردستان, وهو بالأساس كان رجل علم عندهم, و سي متكا نواف, بنانيا كرميا حيث ولدتُ في هذه القرية, أكتب هذه الذكريات وأترحم على تلك الأيام الجميلة عندما كانت عامودا تشع بالعلم والأدب والنشاط الكردي من أمسيات شعرية من قبل العديد من التنظيمات الكردية والشخصيات الأدبية المستقلة, والآن لا تجد هذا النشاط الأدبي والسياسي, فالضغط الأمني, ومواسم الجفاف المتتالية وهجرة شبابنا إلى أوربا ولبنان وغيرها من الأمصار فقد أفقدت عامودا بريقها, وتألقها الثقافي الطليعي في الجزيرة. وكلنا نتذكر كلمة الإعلامي جان الكسان عندما كان المسئول الثقافي في جريدة البعث السورية في جريدة الدولة الرسمية وسألوه عن سر نشر نتاجات شباب عامودا أكثر من غيرهم فقال:" إن عامودا مليئة بالشعراء أكثر من أية محافظة أخرى" .... يتبع
اللوحة للفنان دلدار فلمز