٣٠‏/١‏/٢٠١٠

برهان شكري: دينوكا" سليم بركات". قبل خمسة وثلاثين عاماً، كتب سليم بركات، رائعته المعروفة ( دينوكا بريفا تعالي إلى طعنة هادئة)، وهي قصيدة متوسطة الطول، ضمَّنها ديوانه الشعري الأول( كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً)، والذي صدر في بيروت، سنة 1973. حينها كان عمره اثنين وعشرين عاماً، وهاهي السنوات التي مرت، ضعفي عمره الزمني، ولكن القصيدة، بهيئتها تكون حافزاً متجدداً على قراءتها. أي أن دينوكا بريفا Brîva، دينوكا الكردية، وبريفا النموذج المصغر كردياً: دالة مكانية معتبَرة ومؤثّرة، هي في قلب المكان، ما زالت واعدة بصراخها، تصرخ بالحياة وفيها، مثلما أرادها الشاعر، في الحالات التي صوَّرها. ربما توجد أزمنة مكتوبة، أزمنة تشير إلى وقائع، تذكّر بما كان، ولكن المهم هو عموم المعنى، كون القصيدة تتجاوز المكان الضيق، أي أن القول يتجاوز حدود اللحظة الزمنية المؤرّخة له. السؤال المتجدّد: من تكون " دينوكا"، دينوكا الكردية، دينوكا الشاعرو الروائي الكردي؟ من تكون دينوكا بريفا، وبريفا دينوكا بالمقابل، لأن كلاً منهما تستحضر الأخرى؟ الطابع الكرنفالي للقصيدة، النداءات المتواصلة في القصيدة، تبقي دينوكا في البال، تاريخياً، مثلما تهيب بالقارىء في أن يفكر في بريفا دينوكا: هويتها الناطقة بلسان حالها في المتن. أراد، أو كأنما أراد بركات الشاعر، شاعر المكان المشتعل باسمه، أن يسمي مكاناً، أن يفصح عن كرديته، أن يشير إلى اسم قادر على تلبية طلبه، الطلب الذي هو في حدود الموسوم، حدود المعنى،والمعنى صيرورة نقلات الحالات الذاتية التي تبقي الشاعر طي اليقظة. أن يبحث في الاسم، وفي شرف الاسم، وفتنة الاسم، فكان: دينوكا. قد أكون مفتوناً بدينوكا، بالجانب الإيقاعي في الاسم، بالدلالة، حيث لا يعرف جذر الاسم سوى المدرك لما تعنيه دينوكا، دينوكا عبر بريف، معاً. الترجمة في الحالة هذه لا تفيد، كما تكون الفائدة الفعلية، رغم أهميتها، بقدر ما تفيد الترددات الموسيقية في الاسم ذي الأحرف الصامتة الثلاثة، والأحرف الصائتة الثلاثة: في الحالة الأولى: د. ن. ك. في الحالة الثانية: ي . و. ا. يبدأ الاسم بحرف صامت، وينتهي بحرف صائت، ليكون المجال مفتوحاً، من جهة التحكم بالصوت، بحسب الذائقة الشعرية، والرغبة، في التوقف أيضاً. ديـــــنوكــــــــــــا.... الخ، حيث عنصر الصوت، من خلال التهجئة، يعطي قيمة دلالية للاسم. هل يعني هذا، أن بركات، لم يختر هذا الاسم جزافاً؟ نعم، كما هو السياق الذي أُشرِك فيه الاسم. كل اسم، يحمل أسماء، تكوّن معانيه، وما ليس يحصى في قائمة الأسماء هذه. ثمة دائماً ما هو باطني، ما لا ينكشف، وخصوصاً بالنسبة للذي يعاني من وضع نفسي مقلق. الكردي واجهة دينوكية، الدينوكية لسان حال الكردي بالذات، أليف بريفا، الرهان الدلالي، مازال ساري المفعول، حتى اللحظة هذه. في الاسم : نقول دينوكا، عندما نصغّر اسماً ما، وربما أيضاً من باب الدلال والمداعبة. دين : مجنون، أو مجنونة، ودينوكا: مجنونة، وليس مجنوناً، كما هو العنوان حقيقة، واستخدام الفعل في النص، وإلا لكان دينوكو، حيث الإيقاع والانطباع يختلفان كلياً هنا. إن مفردة " دين": مجنون عامة، تشير إلى الدين بالذات أيضاً، وهذه تكون بالعربية، ولكن المفردة العربية، تربط الشخص المجنون بجهة غير مرئية، بقوة مفرقة للانسان، تكون متحكمة فيه، ولعل" دينبون Dînbûn"، أي الجنون، كمفردة تعني حالة اختفاء، ما ليس مكشوفاً. أي كأن قوة ما تتحكم في المجنون،والمجنون، من جن: اختفى: زال، تلاشى، وجن الليل: عتم الوجود، المكان، وصعبت رؤية الأشياء في المحيط. دينوكا: المجنونة، تصغيراً، وتهكماً هنا، تعرض بحاملة الاسم، من خلال الاسم، والاسم هذا، كما يظهر لـه حكايته المتعددة الحلقات، في توليد المعاني، في بلورة المشاعر والعواطف، وبركات، ربما ما كان يريد أن يقدم وجهاً أنثوياً بالطريقةهذه، الوجه الدينوكي للتهكم، إلا ليظهر ما ليس موجوداً،ويخفي ما وراء ذلك. دينوكا، جامعة مفارقات، ومثيرة لأكثر من إيحاء، ولعلامة لها مغزاها. ماذا وراء العنوان الصدمة: دينوكا، تعالي إلى.. طعنة هادئة؟ كيف تكون الطعنة هادئة، وهي موجعة تماماً؟ ثمة ما يتجسد في دينوكا، في المكان الدينوكي، والوجع الدينوكي، والتاريخ الدينوكي. بركات، شغوف بالاسم، آخذ باللغة في الجهة التي تفسرها على قول المختلف، بحنكة الشعر. تتالي المعاني: أ- في البداية: المشهد السينمائي: عندما تنحدر قطعان الذئاب من الشمال وهي تجر مؤخراتها فوق الثلج فتشتعل الحظائر المقفلة، وحناجر الكلاب.. أسمع حشرجة دينوكا. ص 7. الشمال يعرَّف به كردياً، هذه جهة الكردي التي يقدمَّ من خلالها. قطعان الذئاب، هي التي يظهرها الشمال، جموع الأعداء، والذين ينالون منه، أو يريدون النيل منه باستمرار، هذه هي الإحالة إلى الكائن المألوف، في خطورته، ومن خلال المكان. يبرز الثلج لوحة بيضاء، قادرة على إظهار كل لون مغاير، الأبيض، لون الطبيعة القاسي، اللون الكاشف، لكنه اللون الخطر أيضاً، هو فخ لوني، حيث يمحي الألوان كافة، وهو يعرف الذئاب، مثلما الذئاب تعرف بحسها الغريزي، الحيواني، ما يعنيه هطول الثلج، واشتداد الجوع، والخروج، أو التحرك قطيعياً، في البحث عن أكثر من فريسة جماعياً. يكون العواء، صوتاً للذئب، ولكنه الصوت الذي يتجاوز محيط الثلج المنظور، يمتد في الجهات كافة، ومن بقعة لأخرى، لئلا يبقى ذئب في الجوار، إلا ويتحفز للمشاركة في الإغارة الذئبية، أي في الوليمة الدسمة التي تتحضر لها جموع الذئاب المندفعة بسلطان الجوع الشرس، لاحقاً. ثمة ما يطفىء نار الذئاب هذه، هؤلاء الأعداء، من خلال الحظائر التي تكون مرصودة من قبل الذئاب، وليس اشتعال الحظائرتلك، إلا مداهمة للكائنات المسالمة فيها، والشاعر لم يحددها، ولكنها في المعنى القريب، تذكّر بالأغنام، الأكثر ضعفاً وعدم قدرة في صد هجوم الذئاب، فتكون المذبحة كبيرة في الداخل. ليس ممكناً رد الذئاب في قطعانها هذه، من قبل الكلاب، فالمواجهة مميتة. في الأفق الثلجي المنظور، تكون دينوكا، أكثر من رمز كردي، من خرق الحدود، وتهديد لما هو كردي، لتكون دينوكا، خاصية المكان المنتَهك. ب- في المشهد السينمائي المكمل: في حقول البطيخ الأحمر، المحيطة بالقرية، كانت السماء تتناثر كاشفة عن فراغ مسقوف بخيوط العناكب وقبعات الدرك، حيث تخرج دينوكا عارية تسوق قطيعاً من بنات آوى إلى جهة أخرى خالية من الشظايا. ص 7. دينوكا في المكان، دينوكا في ساحة المواجهة، تعتمد الحيلة، وتلجأ إلى الطريقة التي تبرز بها، لائذة بقوتها الطبيعية، وهي تبحث عن المكان الأكثر أمناً. تكون بنات أوى منتميات إليها، إنها، رغم ضعفها، لا تفقد القدرة على التخفي، والبقاء أيضاً. ج- دينوكا في الواجهة الاسمية: يوسع الشاعر حدود المعنى، لا يتوقف في الإطار الذي يدفع بالقارىء إلى اعتماد لغة التكهنات، إنما يضفي على البيئة طابعاً حركياً، أهلياً أيضاً، حيث دينوكا الاسم الكردي في المكان: دينوكا ماذا أقول للصيادين الذين يضعون سروجاً فوق ظهور الكلاب السلوقية في سفح سنجار وجبال عبدالعزيز؟ أنت مختبئة في مكان ما، ربما في زريبة، تشمين التراب ومزاود النعاج، كبيرة أنت، بليلة ، مسكونة بالحصاد وبي. ص 7. المكان، يبدو مستباحاً، مهدور القيمة، ودينوكا: الحالة الكردية، المقيمة والرحالة في المكان، لا تفقد العزيمة في التحول والتحرك، لا تخفي ما لديها من حس عريزي بلوعة المكان والالتصاق به، بالذين يقيمون في المكان، وفعلها في جعل المكان في حركة دائبة. ودينوكا، تكون موجودة وغير موجودة، فعل التاريخ المهدور، والمنزاح، عن الجغرافيا التي يعرفها الشاعر، الشاعر الذي يجهر بشكواه المكانية: دينوكا... دينوكا.. أنا متعب. ولا أسمع صوتك حيث أرى هضاب " معيريكا" وعربات الأكراد المحملة بالقش. ص 8 . هذا التلف في القلب، يقابله تبعثر في المكان، حركة الأكراد في المكان، وهم يقومون مصاعب الحياة، بنية البقاء أكثر. د- قرع الناقوس: ليس الشاعر بمتحالف مع مشاعره، ومسكوناً بذاته فقط، إنه قيوم على ما يقول مبصر فعله، متوثب في نظره إلى ما يجري حوله، إنه ممتد في المكان، وربما، هو واسع الحيلة، فيما يرى، فيما يقول، ويكتب، فيما يريد التعبير عنه، وفيما يريد إعلامه للقاىء، عبر الشعر، ثمة تحدٍّ، من داخل المكان: ب\ لا فاصل في ذراتي غير دلال الشعب. - تجزأ.. - أتجزأ، - وأهدد من يأتيني متحداً.. ص 11. إنه رهان في المواجهة، في اعتباره المكان مكانه، في اعتبار المواجهة القائمة، مواجهته، من أجل أن يبقى، وأن المتحدي في الطرف الآخر لا بد أن يكون خاسراً. وثمة مواجهة للجهات الأربع: أصغيت إلى العالم أصغيت إلى دينوكا بريفا أصغيت إلى سِمتي ونعاسي... ص 11. الشاعر، مواطن المكان، لكنه مواطن الجهات الأربع كذلك، مواطن عالمي بالمقابل، من خلال رؤية مقدرة، ومحسوبة بيقين المطلع لما هوجار ٍ من حوله. إنه صراخ بكامل الجسد، بكامل الروح في الجسد: من أوقظ في خلوات الجغرافيا بعد ليشهد لي وعلي ومجزرتي تستسقي من أحواض في مفترق العالم والله؟ توسلت إلى الوديان لتسبق أصداء جناحي إلى أكواخ جاثية، وإلى تلميذات يهتفن لأجلي من أسوار مدارسهن... ص 14. هذه الدوامية الظاهرة في القصيدة، هي حركة الواقع المعاش، حركة الموجودات، في المكان المتشظي، والشاعر في المكان، وهو يتوحد مع دينوكا، هذه التي ليست كالآخرين، لأنها مختلفة، حيث المكان مصادَر منها، وتكون غريبة المكان، وهي مرجعه بداية. ولعل الشعور بالخطر المستفحل، هو الذي يدفع به، إلى أن يقول كلمته المنتظرة: قلت غداً أمضي لغد يتراجع أو ينغطف في زاوية قبل حدود الانسان، سمعت الانسان يرتق حاضره ويموت فهرولت إلى السنبلة لتبلغ دينوكا أني قادم ومعي بعض الأعذار على ورق خشية أن أتلعثم حين ألاقيها، ومعي هاويتي .. ص 14. أن يعيش الشاعر حالة الخطر المستمر، فلا بأس بالمواجهة العلنية. وأن يستشعر تصاعد الخطر واستمراره، ويكون هو المستهدف، تكون بريفا معنية من خلاله، فليكن الصوت المعرّف بما يجب القيام به. أن يكون الموت هو المتربص به، بدينوكا: الاسم والرمز، فليكن التوحد بالحياة، بمن يبقيه مائزاً، بمن يمكنه تمثيله، كما هي دينوكا الداخلة فيه، وه الناطق باسمها. من يتقدم بالموت، بالحرب، فلا يعود من مبرر لأي شيء يمكن أن يحصل لاحقاً، والشاعر دؤوب كمعنى، على الجهر بنيته، بنيته ككائن لا يريد الحرب، ولكنه يريد البقاء في مكانه آمناً مستقراً معافى. وأن يبصر الموت قادماً، وهو المستهدف، فلا بأس أن يكون الموت بالموت، موت الآخر الذي لا يتقبله، أي فناء الطرفين، وهي النتيجة المنطقية لحرب، تعتمَد رغبة في استعباد طرف لصالح طرف آخر، وتكون العبارة الأخيرة تحذيراً من منطق الحرب، وآفة الحرب. دينوكا هي وعي الشاعر المكاني، حياته وفناؤه، ليكون الجدير باسمه في ذات المكان، وبه. المشهد الدينوكي، مازال قائماً، حيث القصيدة هذه، تؤكد طزاجتها، لأنها جاءت من ذات شاعرة، تندمج بالمكان، بالكردية التي صنعة المكان التاريخية وليس الطارئة. إن الإطار الابداعي للقصيدة، يظهر الشاعر راوية المكان، واليقظ لما يجري فيه. وقدرة الشاعر في التوغل في المكان، ومعايشة موجوداته، والتفاعل الوجداني معها، تيمة كبرى لتلقي العالم، للبقاء في كل مكان، وهو في ذات المكان، عندما تشكل الجغرافيا وعي الأرض، ويشكل التاريخ وعي الزمن القائم وجهين لعملةواحدة، وآلية الدمج الأدبية هذه، صنة الكاتب المقتدر، رهافة المعنى، وحصافة الرؤيا الشعرية، هذه التي تتطلب المزيد من الانفتاح والامتداد في قلب الموجود حتى الرمق الأخير، وإلا، فكيف لشعر أن يسمى شعراً، لكتابة أن تكون كتابة في مستوى اسمها، كيف لشاعر أن يضمن بقاءه حياً بذات الطاقة الحيوية وفتنة القول، من خلال شعره المتجدد معنىً ودلالة، كما الحال هنا؟ الشعور بكونية التاريخ، بوحدة المكان، بوحدة الناس، وصهر العناصر هذه كلها، في داخل الشاعر، ثالوث الابداع الشعري، وبقاء الشاعر في شبوبية القيمة وحكمة الأثر.
 ملاحظة: اعتمدت في المصدر، على " الديوان"، لسليم بركات، دار التنوير، بيروت، ط1، 1992. عن" سورية إلى أين"