١١‏/١٠‏/٢٠٠٩

إبراهيم حسو: قراءات..(انطولوجيا الشعر السوري 1980 ـ 2008 )..شعراء الظلال يقتحمون المشهد. 
باستعراض مسهب للشاعرة رشا عمران وبمقدمة نقدية هادئة ومبتسرة لخضر الأغا تشرع انطولوجيا الشعر السوري (1980 ـ 2008 ) أبوابها على تجارب 63 شاعرًا وشاعرة تنوعوا في كتاباتهم ومساراتهم وتجاربهم ، أسماء شعرية تخطت التصنيف الجيلي أو جاوزته زمنياً وانضوت تحت تسميات متضاربة في النثر اليومي والحياتي والإيقاعي. تجارب شعرية تسعى إلى الاعتراف والشرعية، مثلما تكشف قوانينها الشعرية الجديدة واقتراحاتها المستقبلية بالنسبة لقصيدة النثر وما تتبعها من مستجدات تستجد هنا وهناك، لتقرأ التجربة الجديدة بعيون مستيقظة أكثر حرفة وأكثر قساوة مع ذاتها. وهنا نحاول الاقتراب من بعض النصوص الشعرية التي ضمتها الانطولوجيا والتي أثيرت حولها الكثير من الاعتراضات والانتقادات والأقاويل، والسبب الأساسي برأيي هو في عدم فهمنا لمصطلح (انطولوجيا) والخلط بينه وبين الموسوعة، فالانطولوجيا تعني (مختارات) والمختارات دائماً تتبع الذائقة الشخصية لمعدها وهي غير معنية برصد المشهد بكامله، ولا نضمر هنا دور الانتقاء العشوائي لبعض الأسماء والاختيارات المزاجية لبعض النصوص: ‏ نبدأ مع نصوص إبراهيم الجبين التي احتوت على مقاطع قصيرة لنص طويل، تحمل تجربة إبراهيم مواجهة مستمرة بين تلك الأصوات التي تعلو وتخفض كأنها في عراك أبدي بين المحسوسات والمجردات، بين الكشف عن هذا الصوت أو ذاك الإيقاع الخفيض المستتر، تجربته فيها معاناة مع أن يستمر في الإصغاء إلى داخله (الصوت) أو المضي إلى بلاغة (الإيقاع ) الهادرة. ‏ أحمد تيناوي، شعريته خطف لعوالم باطنية، غوص في أناه التي تتحول بسردية مفجعة إلى نبرات وانفعالات لا تنطفئ بسهولة، كتابته قائمة على البوح والمناورة والهمس، لغته تستعيد أنفاسها من عقلنة ( الشعر). ‏ أكرم قطريب، نزيل الشعر الدائم، مختلف في كل ما يكتبه، كتابته للشعر أشبه بتشغيل الحواس بكاملها، لغته استنفار دائم بإثارة العين وتحريك الصوت عبر امتلاكها أو لمسها. ‏ أميرة أبو الحسن، تجربتها أكبر من اسمها، فرضت نفسها كشاعرة متألمة ومتأملة في صياغة حياتها شعريا، إنها تكتب بذكاء تفرض عليها الكلمات التي تجيء مطهاة جاهزة لا تلوكها أسنان اللغة أو تعصّرها زغابات البلاغة. ‏ إيمان إبراهيم لا تنقصها الخبرة في اختراق المحرم ولا يشغلها التعبير عن جسدها أو ما يشغل الجسد بشكله العام والمخفي، هي منتجة (الاغتراب) أصلا، اغتراب عن جسدها كموضوع، تاركة اللغة تفلت و تسرح في التعبير كيفما تشاء، شعريتها مختمرة تجئ رقيقة أحيانا وصاعقة في أحيان أخرى. ‏ بشير البكر، خرج من مختبر قصيدة التفعيلة وانصهر في قصيدة النثر كضيف مؤقت وعابر، لكن سرعان ما أخذه سحر هذه القصيدة وأصبح مريدا لها، وإن كانت كتابته امتداد لتجربة السبعينيات في صدامها مع الحداثة الباكرة، تجربته مقترنة مع انجذاباته إلى الحياتي والمكتشف حديثا، ولعل نصه (تحت ظلال التاج) استمرار حقيقي في مكالمة الماضي والذود عن حياضه. ‏ بشير العاني، رغم تجربته الطويلة يبقى اسما عابرًا أو بعيدًا عن المشهد الشعر السوري ومن الأصوات المغيبّة، هو شاعر الظلال إن صح التعبير رغم ظهوره هنا وهناك في الصحافة الالكترونية كناقد وكصحفي، نصوصه المنشورة في الانطولوجيا تشهد له بأحقية إن يكون شاعرا دون شروط، لغته مبهرّة مقتصدة ومنقلبة في الوقت نفسه، غامضة في مطابقات الدال والمدلول، في الصمت والصوت. ‏ جاكلين سلام وريثة شعرية مازالت تضرب جذورها في المشهد الشعري النسائي وريثة تجربة القصيدة الرومنطقية، رغم بعدها عنها فكرياً وايديولوجياً، هي تكتب المواضيع نفسها، بالحطام والخيبة والنكوص والسقوط نفسه. ‏ جودت حسن، مازال هذا الاسم مدوّياً مخترقاً ومنشغلاً بالقصيدة الحديثة رغم انبعاثه من رماد التجربة السبعينية ظهوره الدائم اثبت جدية التجربة وأوضح للكل إمكانية استعادة الحميمية والصدق إلى الكتابة الشعرية. ‏ جولان حاجي، له قدرة على تحريك الخيال وإيقاظه، وسطوة في تمجيد الباطن واللاشعور وشحنه بشعرية متفلسفة، تنطق بالوجوديات، كاشفة المجهول الذهني وتحريض الحواس عليه، شعريته تمجّد الصمت الغارق الذي يوّلد انفجارًا ما يودي بالمخيلة والأخضر واليابس من اللغة التي لا تتوقف ولا تهدأ من السؤال عن جدواها وجدوى الوجود والعدم. ‏ حازم العظمة، شعره يؤلم أكثر ما يمتع، شاعر أليم بالفطرة إلى درجة الألفة، غيابه عن المشهد كحضوره كلاهما يؤثران، ويستعيدان السؤال نفسه: كيف تستدعي لغتك؟ ومن أية طينة تجبل صورك؟ ومن أي انفجار تتشكل التفاصيل المطرزة لديك؟ وتتمظهر الطاقة الشعورية في روح كلماتك. ‏ حسين بن حمزة، إحساس جميل وفراسة نادرة بتعظيم الصورة في الكتابة الشعرية. ‏ حسين درويش، صوت أختار إن يكون منادياً، لغته قريبة من أناه إلى درجة النسخ، شعره جزء من صوته، من لحظة حياته المعيشية، كلما اقترب حسين من ذاته (الصارخة) أقتنص فريسته (القصيدة). ‏ خضر الأغا، يعرف من أين تؤكل كتف الحداثة الشعرية، يتعامل مع نصه الشعري بعقلية الواقف على هوة عميقة في واد مليء بالتحولات اليومية العاصفة لمفاهيم جديدة ومستحدثة للشعر والنقد معا. ‏ دلدار فلمز، من الجيل الجديد القافز والقابض على رشم الشعر بروح قلقة محيّرة، كتابته فيها محاكاة وسجال مستفز لا يتوقف، شعرية دلدار ذات مناخات متعددة وأنفاس ملجومة، يستفيد من اللون والتشكيل بتنويع كلماته وتلوينها، انه شاعر ملّون بامتياز. ‏ رشا عمران، كتابتها جنونية ذات مد حسّي رقيق، تلمس رشا أناها في الأخر، ودائما ثمة فورة شعورية كامنة في طيات كلماتها، لغتها متقّلبة ومتبصّرة في الوقت نفسه. ‏ لقمان ديركي، محرر الكلمة الضالة من هامشيتها وعبوديتها لفكرة الإهمال أو الاستغفال. ‏ محمد عضيمة، محترف الشعرية الضالة، شاعر ثائر في كل كتابة من كتاباته الشعرية، وفي كل كتابة نقدية يثير اللغط والضوضاء وإشارات الاستفهام، شعريته لا تترك شاردة أو واردة من قاموس حياتنا اليومية. ‏ مروان علي، تجربة مختطفة بنائيا وتخيليا انه يذرف من الأطراف والأزقة والحارات والملاهي والأقبية المظلمة من تجربة الفشل التي لبست حياته المهنية سواء في مدينته القامشلي أو مرتعه الأخير ألمانيا. ‏ صالح دياب، نصوصه تنقّب في صحراء الحب والكره والخيبة وحالات شعورية غامضة تشبه إغماءات أو هذيانات تتسلل إلى المقاطع الطويلة حيث تغلب عليها جمع التفاصيل ومطاردتها بعين سينمائية مراقبة وحذرة ، لغته خبيثة إلى حد النقاء والانبساط. ‏ صقر عليشي، أختبر القصيدتين معا، التفعيلة التي افقد من خلالها رونق شاعريته وعفويته وصدقه والنثرية التي جعلته شاعرا غنائياً مختفياً وراء موهبة إلقائية ظلت تعاند الظهور حتى مطلع التسعينيات. ‏ طه خليل، انخرط مع شعراء التسعينيات في استعادة العفوية والصدق إلى الكتابة الشفوية، شعريته ذات نكهات طازجة لأنه يطبخ قصائده على نار هادئة. ‏ عابد إسماعيل، لمع هذا الاسم مع بداية التسعينيات عبر كتابه الشعري (طواف الآفل) وقد اضطرد هذا اللمعان مع ظهوره ناقدا مختصا بالنقد الشعري، يهتم عابد كثيرا بهندسة الصورة ومطابقتها مع ما تحملها من طاقات تعبيرية تدفع بالشعري أن يحمل أكثر من صوت وأكثر من مدلول وأكثر من إيقاع، هو شاعر الأصوات أن جازت التسمية هنا ، لغته مراوغة غاضبة في الوقت نفسه. ‏ عبد اللطيف خطاب، لم يتركه المرض ليستمر في الشعر والحياة وهو بالمقابل لم يترك الاثنين، كانت حياته أشبه بمعركة حقيقة بين أن يبقى مع آلامه، يتآلف معها وليصبح هذا الألم جزءا من شاعريته الذي أطفئه الموت (2006)، تاركا مجموعتين شعرتين لم يلمسهما النور، اشتغل الخطاب على اللغة والموروث الشعبي والتخيلي، في كتابه ( زول أمير شرقي ) قراءات صاعقة لانهيار الذاكرة الإنسانية والإحساس الحطامي بالعالم عبر اللغة والشعر. ‏ علي سفر، خرج هذا الشاعر من عمق التجربة الادونيسية، نصوصه الأخيرة أثبتت إيمانه بجدوى الكتابة المفتوحة، الكتابة القلقة المنبسطة في الوقت نفسه. وما (اصطياد الجملة الضالة) إلا تنويعاً على مقامات نص الرؤيا، هذا النص الذي بدأ عاصفاً ومقتحماً عوالماً مستقبلية، يؤدي بالأخير إلى الهدأة الحانقة على يد قصيدة اليومي الآني، لغة سفر محتبسة في سياقاتها، مطوية ومنكمشة ضمن مفاصل المفردة، والصورة الشعرية عائمة أو خارجة عن الاستعمال، لغة نازفة مركونة من الإهمال. ‏ عمر قدور، قذفه الشعر إلى الرواية، لا يلتفت كثيرا إلى قعر شعريته بالقدر نفسه الذي يغور فيه إلى أعماق الرواية وينخرط في سياقاتها وعوالمها ووقائعها. مجموعته (ظل مائل في الظهيرة) تحفة تعبيرية استوعبت حالات قصيدة النثر في التسعينيات وشكلت نموذجاً أخاذاً زينت المشهد الشعري السوري التسعيني. ‏ فارس البحرة، وفراس سليمان وفواز قادري وعبد السلام حلوم، كلهم يلتقون في رحلة واحدة وهي البحث والتنقيب عن الأنا الحميمية وإثارة هذه الأنا عبر تحولاتها وتماديها، لغة مشتركة تقريبا في البلاغة المتعمدة المتوالية باضطراد، نصوصهم نموذج أعلاني بالنسبة لصفة (الحركة) و(التغيّر) ضمن اللغة الواحدة، كتاباتهم رغبات حقيقية معذّبة تخلّت عن قدرها وواقعيتها. ‏ رائد وحش وقيس مصطفى وهنادي زرقة ورولا حسن وسامر إسماعيل، أسماء تسجل نفسها في اختبارات شعرية دائمة، أسماء تقتحم عوالم إنسانية وتعبيرية بثقة محسومة، ما يجمع هذه الأسماء، هو البساطة في طرح القول الشعري ووحدة الموضوع والمعنى ووحدة الاغتراب الذهني عن واقعهم، وهناك دائما هوامش معلقة يرجعون إليها، هوامش الرغبة في البوح والتشكي وخرق المحرم والاستنجاد بالتهويم. ‏ مرام مصري، المزاج الشعري الرطب، والتريث المصحوب بالحكمة في بناء الجملة الشعرية، ذكية جدا في اختيار ألوان مفرداتها، تلبس نصها أزياء من شتى الفصول، هي شاعرة متفرجة على المشهد الشعري السوري، دائمة التمهل في إصدار جديدها، نصها الأخير في الانطولوجيا خلاصة تجربتها مع القصيدة الجديدة، تكتب بلغة مجروحة تصل أحيانا إلى استعباد المفردات ومن ثم تدجينها في أقفاص مصنوعة من عصاب القلب. ‏ نوري الجراح طفرة ونقلة فريدة انتقلت بها قصيدة النثر في سورية إلى واجهة جديدة، طفرة في المدلول الجديد للحداثة التي ظهرت بخفوت وخجل على يد (الماغوطيين). ‏ وعلى هذا تبدو معظم هذه الأصوات كما كتب خضر الأغا في المقدمة (خفيضة، هامسة على الأغلب، خائفة، منزوية... البطولة التي يدعيها الشاعر الجديد بطولة مضادة، لا يوجد (عنترة) في النص الجديد، إنه نص موحش، وحشي، والأهم من هذا وذاك، أنه يخلق معناه من ذاته، من داخل، وليس من خارج). ‏
دمشق صحيفة تشرين ثقافة وفنون الأحد 11 تشرين الأول.