٢٧‏/٨‏/٢٠٠٩

عبدالرحمن عفيف: نايلون الخنزير. رأيتُ الجدار وهو ما يشكّل سطح المنزل وليس أهله حيثُ لم تكن لي الفة مع السّاكنين بالرّغم من كونهم أقربائي. لا أعرف حتّى الآن مدى القرابة وتشكّلها بين عائلتنا وعائلتهم. هم ينتمون إلى نفس الكنية وطباعهم هي نفسها طباعي وبالطّبع نظرهم موجّه مثل نظري إلى الدّاخل، فهم من المشايخ. لكنّني حسب ظنّي الآن كنتُ أرى أكثر منهم، ولو أقلّ من النّاس الآخرين الذين يرون الكثير من التفاصيل الخارجيّة ويعيشونها وبهذا لا يستطيعون في يومٍ من الأيّام أن يسردوا شيئا من الحياة كمثل من نظرهم داخليّ وليس خارجيّا. الأشياء التي رأيتها قليلة وبسيطة وثانويّة للغاية، يمرّ بها العابر فلا يلتفتُ قطّ وإن التفت إليها، فإنّه فقط لينساها. هي أشياء النسيانِ التي يجب أن تنسى وأنا لا أفعل النّسيان بل أودّ أن أعرف سبله وهو أيضا داخليّ. وكانت تهمة أحدهم لي أنّني لا أرى لأنّني أرفع أنفي على الأشياء حسب التعبير الكرديّ. رأيتُ صوري في أثناء دراستي في الثاني عشر الثانوي، أقصد البكلوريا السوريّة، كان رأسي حليقا وأبدو شخصا ينظر إلى الأعلى ولم أكن أنظر تلك النظرة إلى نفسي داخليّا. أخاف الخوف كلّه أن أضيع في التفاصيل وتهمتي كانت من ابن عمّ لي أنني لم أكن مهتمّا بالتفاصيل وأنا أسرد ما رأيتُ بدل الماء في نهر الخنزير. أكياسٌ كانت تطير، أكياس حمراء وبيضاء بعد أن تخلّصت من المهملات التي فيها، الأكياس النايلونيّة مقطّعة من فعل الرّيح في أطرافها. وهذان اللّونان كم هما يتناسقان، هكذا أحمر وأبيض، أليس خدّ فتاة أحمر وأبيض أو أحمر على أبيض في الخجل. وإن قلبنا بعض الشيء كلمة الخجل فإنّها تصير حجل وهو أحمر المنقار. وجدار بيت أقربائي بنيّ أو هو ذلك الأصفر الذي للبيوت التي تبنى بالوحل والوحل يدعم بالقشّ والتبن، هما سندٌ لتماسك الوحلِ. وتطير أكياس فضلات نهر الخنزير إنْ هبّتِ الرّيح، تطير طيرانا خفيفا من بقعة خفيفة إلى بقعة خفيفةِ. وبالرّغم من كلّ الروث والخراء والذرق والزجاج في النّهر فإنّ نبتة ما تنبت وشوك ما يخرج ببرعم وغصن أصفر أو أزرق وانظروا معي حيثُ أرى الكثير من الأشياء التي لا تهمّ. أرى شجرة وجدار بيت أقربائي وأربعة ألوانٍ، أرى مركز شرطة عامودا المبنيّ على ضفّة الخنزير؛ أرى مركز باصات الفوكس في الزاوية. إلى أين تذهب الباصات؟ إلى القامشلي. ولم أعرف أقربائي جيّدا، عرفتُ فقط "مها" التي سكنت معهم في ذلك البيت، على ضفّة ذلك النّهر. كانت تأتي لزيارتنا، تصادقنا، تصادق أخي وأختي ويتهلّل وجه أبي بمرآها. يمزح أبي معها شيئا خفيفا. وأنا أنظر إليها نظر المعجبين وهي كانت ترتدي بنطال جينز أو تنّورة قصيرة وأبي كان يتساءل كيف يسمح لها أبوها "الشّيخ عبدالوهاب" أن تتعصْرن وتعصر نفسها في الملابس الضيّقة هذه وتلبس الموديلات، يتساءل فحسب ولا يبدي لها أيّ ملاحظة بضرورة لبس ما سوى الذي ترتديه. يكون النّهر في الصّيف، أيّ نهرٍ يجري فيه الزّبل بدلَ الماء!! أكياس نايلونٍ، شظايا زجاجات زرقاء داكنة، كانت تحوي مواد تلميع الأحذية؛ ربّما كانت المادّة في الزجاجة الزّرقاء هي نفسها زرقاء داكنة فأعطت لونها للزّجاج. زجاجة مزيج تلميع الأحذية كانت تشبه ذبابة الغائط الكبيرة. نصعد الدّرجات الاسمنتيّة إلى الجانبِ الآخر، وكما لاحظتم ليس ثمّة من جسر في هذا الموضع الذي يحتاج في الحقيقة إلى جسر. ثمّ يكون طريقنا إلى بيتهم مستقيما باستمرار إلى أن نصل. لا أتكلّم مع مها من الخجل أثناء الطّريق، أرافقها فقط كرجل يحرسها من اللّيل. أحرس مها وأتنشّق خجلا من عطرها ويعجبني بنطلونها الجينز وتنّورتها "الميدي". هذه الرفقة هي في الليل وفي النّهار تأخذني تفاصيل أكياس النايلون الحمراء والبيضاء والروث المتراكم. معرفة أنّ اقرباء لي يعيشون في ذلك البيت تشغلني، وأيضا أنّ البيت يقع لمسافة أكثر من عشرة أمتار بعيدا عن ضفّة النّهار، وهذه فضيلة لكي لا تبلغ الروائح النتنة أنوف أهله وهم أهلي ولا أعرفهم. وسألتُ نفسي، لمَ نهر الخنزير جميل وليس فيه ماء، بدل الماء الرّوث والفضلات والزجاجات وفيها رؤوس الذّباب!! لمَ، حين في ذلك الوقتِ، في ذلك الوقتِ وكلّ وقت وهل لنهر بلا ماء من وقت! سألتُ ثانية سؤالا لا يرد، سؤالا له الكثيرُ من الأجوبةِ وبدلها نظرتُ نظراً غيرَ ذا أهميّة إلى جدار الباحةِ التي تقعُ إلى الضفّة التي تقابل مستوصف المدينة. نظرتُ دون أن أهتمّ بالتفاصيل إلى ذلك البيت الذي يسكن فيه أقربائي. بيتٌ كبيرٌ، زرته مرّة ربّما، ربّما لم أزره ولم أهتمّ به قطّ، كنتُ في داخلي ونظري موجّهٌ إلى داخلي، ولكن يُرى النّهر وإن كان النّظرُ موجّها إلى الدّاخل أيضا، نعم، بلى، بالطبع. لا أعرف!! ربّما رأس الذبابة أخضر أو أزرق. تصوّروا رأسا أخضر كبيرا للذبابة تطيرُ على فضلات نهر عامودا. ولأسمِّ نهرَ عامودا باسمه الحقيقيّ المتفرّد به على الأنهر هكذا" نهر الخنزير". أنظر نظر المعجبين إلى مها في اللّيل حيثُ أرافقها حين تسهر عندنا في البيت بعدئذ إلى بيتهم على ضفّة النّهر. ذكرتْ لأختي ذات مرّة أنّ عينيّ حمراوان، حيث على أغلب الظنّ نظرتْ مباشرة في عينيّ واكتشفت الحمرة، هل كانت الحمرة من القراءة والمطالعة اللتين كنتُ آنذاك مواظبا عليهما؟ هل الحمرة كانت من السّهر وقلّة النّوم؟ نظرت مها في عينيّ، مها نظرت بدقّة إلى عينيّ، مها نفسها. أرافق مها فنقطع النّهر بالقربِ من بيتِ " حجّي شاكر" المؤذّن البديل للمؤذّن " محمود"، مؤذن جامع عامودا الكبير. هناك وادي النّهر ضيّق وتوضع عادة بضعة أحجار كبيرة للمارّين، خاصّة في الشّتاء، حين يبقى بعض ماء متعفّن من الفيضان السّابق.