١٧‏/٧‏/٢٠٠٩

فرج بصلو
الثانية عشرة من عمري أحتفلها لوحدي(الجزء الثاني)
هذه الصفة عند الكبار وخاصة أحد الوالدين, إذ يتخيل له كونه الوحيد يدرك. أو فقط هو من يتذكر. كانت معروفة لديه. وبايجاز يمكن القول: مقتها. ولو لأن لكل إنسان ومهما كان عمره, أو نسبته العائلية ذكرايات, وأخبار وأحاديث. وأهم شيء: له زاويته الشخصية الخاصة منها يطل على الأمور, ومنها تطل الأمور عليه لتصبغ بأحبارها روحه القاصرة. المصابة  القابلة للنفوذ. تلك الروح المعكسة لتلك الأمور, المعكسة لتلك الحياة التي قلما يجد المرء نفر يحدثه عنها.  
الإسطوانات, الكتب والأفلام. كل ما ذكرته والدته بتهكم, كان له مكانته واطوار حياة تخصه في دنياه. وليس عليه أو من أجله حمل على والده وخشي منه. فكل هذا كان يجب إضفاء الليونة على روحه, أفكاره, بواطنه وسبل تكلمه. ولسبب ما لم يكن كذلك. محافظته وتكتمه وإنغلاقه على ذاته, في دفاتره, بكحولياته المحببة, بالموسيقى التي كانت لديه إدعاءات الفهم فيها. وفي الكتب, ربما كانت تعبيرات لدوارات عصفت في داخله. لموهبة مقموعة. لنبوغ لم يربى وينمى, لم يدلل أبداً. لإحتقار البيئة لفن يحاكيها. أنانية قصوى عند شخص يحب الإبداع والحضارة, ولا يشارك بهم أفراد عائلته بما فيهم أطفاله. شخص يدقق في زيه وحضوره, لكنه أبداً لم يشتري ولو جورباً لأحد أطفاله. شخص يتناسل ويتناسل ليصير أباً لدستة عيال, لم يعيلهم ولم يسعى من أجلهم, لا تربيتهم ولا طعامهم ولا تعليمهم. لم يكن هذا عيبه الوحيد, فهربه الدائم من الواقع العام والعائلي, هيجانه المتتالي وزعبراته الغير محقة, إنسداده في عالمه وهجره لعوالم شركائه في الحياة, شكّل مجمع إنفجارات. ضغطه في كل صغيرة وكبيرة, قضى على إمكانية اللجوء إليه بأي طلب كان. فالصراخ جاهز له في كل حادثة وحديثة. وأمره الدائم لكل إنسان في الدار لتلبية طلباته بدقة وبلا تسويف, كان مصدر الذعر العظيم الغير معافى من ناحية الجميع. أليس هو الذي يسمح لنفسه الغياب ليال تلو الليالي من البيت؟ أليس هو من يعود فيما بعد منتصف الليل بكثير. اليس هو من لم يحترم حرية الآخر وحاجاته لكل ما ذكر؟
الثانية عشرة من عمري أحتفلها لوحدي مع نجوم الليل, وقطي طرزان على حافة اللحاف. ويوم الغد مع أصدقاء من المدرسة الأنجيلية. تنتظرنا الألعاب الرياضية. كرة الطاولة, والبلياردو ومشاهدة الأفلام وغير ذلك مما تعم به نوادي الجاليات المسيحية في قامشلو ذلك الزمان. واللهو يأكل الزمان كأكل الجراد كل شيء نضير. فيلحق الليل بالنهار. لكني لا بد لي من عودتي لدارنا الطينية على مداخل كراج الشاحنات الكبيرة المدوية الموتورات تدخل وتخرج من ساعات الليل الأولية. فالقيادة والحمولة في النهار الحارق منكهة وقاتلة. أدق باب الصفيح بالقبضة النحاسية دقات تهز بدني الصغير برنينها, وما إن تفتح إذ به يرمي في الفتحة شعره اللامع من البرلاتنين, كأنما بارقة موج داكنة إرتمت في وجي الوجل. وابتدت عواصف الصراخ, والركل ومطر من صفعات لاهبة على الخدود على وجه تفوقاتي الدراسية, على أيام
ميلادي المعيدة والغير معيدة إلى ذلك الحين. لم أتمالك نفسي حتى للهروب. وممن علي الهروب؟ ألم يتوقع الأ يكون في البيت كالسابق؟ وكيف إنعكست الصورة على الموجود والغير موجود؟ ما هذا الكمين؟ ماهذا التخطيط؟ وهل التربية بالضرب؟ لماذا ياجورج دعيتني إلى سينمتكم للعرض المتأخر ليلاً؟ هل لقلة المشاهدين, أم لفرحتي بطرزان وجين؟
أضغط على الزقاطة من الخارج فترتفع لكن الباب باب محكم ومقفول. وخشخشة الزقاطة تتصدى بين دور الطين. بين مصابيح الكهرباء في زوايا الشوارع المزفتة ووتترامى على دكك لم يرصفها أحد. صفيح الباب منقوش بالمسامير ذات الرؤوس الخشنة من صنع الحداد الأرمني وانيس جارنا عند متجر الجد. لكم ساعدته في تحمية الحديد وضرب النار, وجلب الشاي, القهوة, والماي. والباب محكم ومسدود. أين انت ياوانيس؟ يناشدك طفل أزرق العينين.
طفل المحاسبات, الطرائف والغذاء المشترك مع الجد كل يوم خميس؟ لا من يسمع وموتورات الشاحنات تدوي حتى ما بعد الجقجق. ما بعد الجامع. ما بعد كنائس قيامة المسيح. ما بعد صيحات طرزان وابتسامات جين وقفزات جيطة. سوداء أدغال الليل وبعض المصابيح إنطفت لإنقطاع الطاقة في المحطة المركزية. دائماً على باب المراهقة يصفعنا السّواد...
يدي على المسامير تحاكي الموهبة والدقة. والمسامير ذعر وخوف والليل تابوت الأبد. حيث يطول الشارع حتى الكورنيش جنوباً وحتى الجسر الصغير غرباًً. محاولة أخرى لدفع الباب تضيع مع النظر على سواد الجهات. أرنو إلى والدتي كالساحر واعود أخاطب نفسي: ألا تعلمي إني خارج الدار؟ الم أعلمك عن فلم الطرزان في سينما حدّاد, عند جورج, أنسيتي جورج؟ أماه! سيخطفني القرباط! قرج المجون! سحرة السطو والإختلاس! رواد الليل والظلام! أيها المخلص أينك؟ أيها المصطفى أينك؟ ياحراس شارع فلسطين أين اختفيتم, والليل
يزحف؟ سأشهد بكل نبي ورسالة لأتقي من جموع الجن! سأوزع الشوكولات على الأشباح! والباب ما زال مسدوداً. أيها الجن القادم من حكايا جدي تمهل! أيتها الأشباح الآتية من روايات جدتي المحناة تمهلي! تمهل أيها النور الأحمر الساطع. تمهل أيها الوهج! تمهل ياخوف! ياأنوار البوزينك يادوي العربات على قلبي الصغير تمهل؟ إنهم يشغلون المتورات لميلؤوا البطاريات بالطاقة. وبعد الطاقة القصوى كل شيء يهدأ. يهدأ الحلم والوسواس. ولا تهدأ قبضة النحاس من ضرب الباب. ولا يهدا الأمل, قد تسمع الوالدة, قد تسمع الجدة, قد يسمع أحد. والبرهة بالعصر تقاس لما يطول الإنتظار. لكنها برهة وفاتت, تليها زعبرات وصراخ وضرب مجدد, وأمر جديد: روح نام وين ما كنت! روح لعند جورج حدّاد. والوالدة تتوسل: خلي الولد يفوت! من شان الله! إفسح لي أطلع لعندو من شان الله!. وهل يعرف الله من يسد باب لولده؟ ينفي, ينفي بشدة ويصرخ. وكنت انا الهادئ الوحيد في تلك اللحظات. أراها ترتجف. أرى وجهها يغتسل بالدمع الصامت. أرى منامتها الوردية تنفعس لسبب ما. أرى كفها البيضاء تمحي دموع الحسرة. وينسحب لتبقى أمام الباب المفتوح. تعال فوت. وبباله
يفوت طرزان تفوت جين والشمبانزي والطفل الرضيع. شيمبانزي تحمل الطفل الرضيع ويطير طرزان على حبال شجر الأدغال. تبكي والدتي بدون حس وتقول: يعلم أين كنت, أنا أخبرته, أنا قلت له ستأتي متأخراً بسبب الفيلم...             
 - لن أدخل الدار إلاّ اذا خرج منها اولاً
- لوين بدك تروح؟
- سأبقى على الباب حتى الصباح
الإسطوانات, الكتب والأفلام. كل ما ذكرته والدته بتهكم, كان له مكانته واطوار حياة تخصه في دنياه. وليس عليه أو من أجله حمل على والده وخشي منه.
هذه الصفة عند الكبار كانت معروفة لديه... الثانية عشرة من عمره سيحتفلها لوحده إلى الأبد!
 - يتبع