١٢‏/٦‏/٢٠١١

عُرف عن الكاتب الألمانيّ هيرمان هيسه أنه يصارع بين الفعل والتأمّل، وكانت حياته مثالاً تطبيقياً لما يعانيه بقصائده ورواياته. كما كان مغرماً بالشعر والموسيقى والفلسفة، وعاني من فوضى عالمه، خاصة أنه بدأ إبداعه قرابة الحرب العالمية الأولى فكأنه بمسرح سحريّ للمجانين فقط. وقد تأثّر بأفكار عدد من أنبغ تلاميذ فرويد (يونج، لانج)، فانتبه لبعض من غرائزه وقدراته ودوافعه مما جعله متمرّداً حتى وسط تأمّله، وبدا كلّ هذا واضحاً في كثير من قصائده ورواياته، خاصة في ديوان "قصائد" وروايته الأشهر "ذئب البوادي".  

تُعتبر كتابات هيسه غنائية واعترافية وتُعنى أساساً بالعلاقة بين الإنسان وغربة الفنان في تأمّله بحثاً عن الله. هكذا ينشُد ما وراء البسمة، ما وراء الحكمة، ما وراء روح الإنسان. فالحياة مغلّفة بالسرّ، وهناك دائماً شيء بعيد المنال. وبرغم مرور عقود على كتابة قصائد هيسه، إلا أنها لا تزال تدوّي في الأعماق، قال "بوابةُ السماء حيث تكون". ويمتزج شعره ببصمات من بني جِلدته: هولدرلين، جوته، نوفاليس، شوبنهور، نيتشه. وظنّ هيسه نفسه شاعراً في المقام الأول، لكن غلبت بالنهاية، كالعادة، شهرة رواياته على شعره.    
وهنا بعض من قصائد هيسه، بأثر من صوفيته الشرقية، التي أبقته حياً إلى اليوم:          
(أين الوطن)
  
أسيرُ غالباً، بوقتٍ متأخّر، عبرَ
الشوارعِ، خافضاً نظرتي، عجِلاً،
مُفعماً برعبٍ. صامتاً، فجأةً، تنهضُ
وعليّ أن أُحدّق في حزنكَ بعينَيّ.
تنشُد سعادتكَ، وهي للموتَى.
وأعرفُ أنكَ سائرٌ خلفي، كلّ ليلةٍ،
بسقطةٍ خجولٍ، في رداءٍ بائسٍ،
تفتّشُ عن مالٍ، وتبدو بائساً!
وكم تلمّ حذاءكَ، يعلمُ الله، بفوضى  
ذميمةٍ، تلعبُ في شَعركَ الريحُ
ببهجةٍ خليعةٍ. فتسيرُ، تظلّ سائراً،
دونكَ الوطن.    

(من دونكِ)
 
تُحدّقُ فيّ وسادتي ليلاً
خاويةً كشاهدِ قبرٍ؛ لم أظنّهُ  
بالغَ المرارةِ، أن أكونَ وحيداً،
أن لا أرقدُ ناعساً وسط شَعركِ.
أرقدُ وحدي بمنزلٍ صامتٍ،
مصباحي المعلّقُ معتمٌ،
وأمدّ يدَيّ في رِفقٍ لأصلَ إليكِ،
أضمّ فمي الدافئَ بنعومةٍ نحوكِ،
فأُقبّلُ نفسي، مُجهَدَاً وعليلاً، ثم
أستيقظُ فجأةً، كلّ ما حولي ليلٌ
باردٌ، ينشأُ ساكناً. يستضئُ النجمُ
بالشبّاكِ صافياً، حيثُ شَعركِ
الأشقرُ، فأينَ فمكِ اللذيذُ؟   
أحتسي الألمَ في كلّ متعةٍ،
والسمّ في كلّ كأسِ نبيذٍ؛
لم أظنّهُ بالغَ المرارةِ، أن أكونَ
وحيداً، لوحدي، من دونكِ.

(ليلة موحشة)
 
إخواني، الذين أُعزّهم،
أيها البؤساءُ، قريبين وبعيدين،
يا مَن تشتاقون للنجومِ،
تحلُمون بالراحةِ بعدَ الألمِ،
يا مَن تزِلّون في صمتٍ، ليلاً،
كما تتحطّمُ النجومُ، رافعينَ
أيديكمُ النحيلةَ في تضرّعٍ للأملِ،
ثم تنتبهونَ، على عناءٍ،
كبؤساءَ عاديين فاقدي الرُشدِ.
عليكم أن تعيشوا كبحّارةٍ لا
يُزيّنهُم عَجزٌ، فكلّنا نتشاركُ في 
وجهٍ واحدٍ. ردّوا عليّ تحيتي. 

 (كم هي ثقيلة أيامي)
 
كم هي ثقيلةٌ أيامي. 
فلا نارَ تُدفئني، لا شمسَ
تضحك معي، وكلّ شيءٍ عارٍ،
كلّ شيءٍ باردٌ قاسٍ فؤادهُ،
حتى الحبيبُ. تبدو النجومُ
نيّرةً مقفرةً، من أسفلَ،
حيثُ علمتُ من قلبي
أن حبّي ماتَ.

(راقداً بالعشب)
 
أهذا كلّ شيءٍ، أوهامُ
الأزهارِ زائلةٌ، وألوانُ التلّ
في مرجٍ صيفيّ منيرٍ، الأزرقُ
الناعمُ السائلُ بالسماءِ، طنينُ
النحلِ، هذا كلّ ما في أنينِ الحلمِ، 
صرخةُ قوىً غير واعيةٍ بالقضاءِ؟
حدّ الجبلِ البعيدِ، ذلك المرتاحُ
في جرأةٍ وجمالٍ، وسطَ أزرقَ،
أهو نوبةُ ضحكٍ، مِزاجٌ وحشيٌّ
من طبيعةٍ هائجة، بَلِيّةٌ فحسبُ،
لوعةٌ فحسبُ، تلمُّسٌ أهوجٌ
فحسبُ، لا يرتاحُ وما من حركةٍ
بركةٍ؟ لا! فدعني وحيداً، إنكَ
حلمٌ فاسدٌ ضمنَ عالمٍ يُعاني! 
رقصةُ الحشراتِ الدقيقةِ
تُهدهدكَ تحتَ شُعاعِ المساءِ،
نعيبُ الطيورِ يُهدهدكَ،
نسيمٌ من الريحِ رطّبَ جبهتي
مواسياً. دعني وحيداً، فإنكَ
حزنٌ بشريٌّ قديمٌ
لا يُطاقُ! فدعهُ بكونهِ الألمَ. 
دعها المعاناةَ، دعها الفاجعةَ.
لكن دونكَ هذه الساعةُ الحلوةُ
صيفاً، دونكَ شذى هذا البرسيمِ
الأحمرِ، دونكَ في روحي
لذّةٌ رفيقةٌ عميقة.

(ليلاً في أعالي البحار)
 
ليلاً، حين يُهدهدني البحرُ
والنجمُ الواهنُ يتذبذبُ
أرقدُ على أمواجهِ العريضةِ،
فأُحرّرُ نفسي كلياً
من كلّ نشاطٍ وكافّة الغراميات
حتى أقفَ بصمتٍ متنفّساً بنقاءٍ،
وحدي، وحدي يُهدهدني البحرُ
الذي يرقُد هناك، بارداً ساكناً،
بألفٍ من أنوارهِ. وأفكّرُ في
صِحابي، فتغرقُ نظرتي بنظراتهم،
وأسألهم واحداً واحداً، صامتاً،
وحدي: "ألا تزالُ معي"، "هل أساي  
يُمثّل أساكَ، موتي موتكَ؟ 
هل تحسّ بحبّي، بحُزني،  
كنفحةِ أنفاسي، أو مجرّد صدىً؟"   
فيردّ نظرتي البحرُ في سكينةٍ،
صامتاً، وهو يبتسم: لا.
لا تحيةَ أو ردّ يأتي، أينما أتطلّع.  

(سربُ بعوض)
 
آلافٌ من الذرّات وامضةٌ، 
حشدٌ تجمّعَ في جشَعٍ للأمامِ
بدوائرَ مرتجفة. يسرفونَ 
في حفلهم ساعةً كاملةً، و 
يتلاشونَ فجأةً. يهذون، بأزيزٍ  
زاعقٍ، منفعلينَ، مرتعشين
في فرحٍ إزاءَ الموتِ. 
بينما الممالكُ تغرقُ في حُطامٍ،
عروشُها المُثقلَةُ بالذهبِ،
تتطايرُ تواً في الليلِ والخرافةِ،
دونَ أن تُخلِفَ أثراً، فهل
صادفتَ يوماً هذه الرقصةَ الضارية؟

(التفكير ليلاً في صاحب)
 
أهو عامُ النحسِ، حَلّ
قبلَ ميعادهِ الخريفُ... أمشي
في الحقلِ ليلاً، لوحدي، والمطرُ
يقعقعُ، فوقَ قُبّعتي الريحُ...
وأنتَ؟ أنتَ، يا صاحبي؟
تقفُ الآنَ (ربما) فترى القمرَ
المِنجلَ، منتقلاً بقوسٍ صغيرٍ على
غابةٍ، حيثُ نارُ المعسكرِ حمراءُ 
بوادٍ أسودَ. ترقدُ (ربما) في حقلِ
قشٍّ كي تنامَ، ويسقطُ الندى بارداً
في جبينكَ وعلى سُترةِ المعركةِ.
قد تمتطي الليلةَ ظهرَ جوادٍ،
تلوحُ أمامكَ أبعدُ نقطةٍ للحدودِ،
ببندقيةٍ في قبضتكَ، فتبتسم 
هامساً لجوادكَ المُنهَكِ.
وأظلّ في تصوّري إياكَ (ربما)
تقضي الليلَ ضيفاً على قلعةٍ
غريبةٍ بأراضٍ مُسيّجةٍ، وأنتَ
تُسطّر رسالةً في ضوءِ شمعةٍ،
وتنقُر أصابعَ البيانو جنبَ نافذةٍ،
تتلمّسُ صوتاً...
و(ربما) أنتَ صامتٌ، قد مُتّ،
فلن يُشرقَ النهارُ على عينيكَ
الجادّتين المحبوبتين، ويدُكَ
السمراءُ المحبوبةُ مُرخِيَةٌ ذابلة،
وجبهتُكَ البيضاءُ مشقوقةٌ ـ آهِ،
لو كان، لو عادَ، مرةً، ذلك اليومُ
الأخيرُ، لرأيتُكَ، بلّغتُكَ
عن حبّي شيئاً، ما خشيتُ أن أبوحَ!  
لكنكَ تعرفني، تعرف... وتبتسمُ،
تومئُ الليلةَ عندَ قلعتكَ الغريبةِ،
ثم تومئ لجوادكَ بالغابةِ المنقوعةِ،
ثم تومئ لمنامكَ بالقشِّ الخشِن
وفوضاهُ، تفكّر فيّ، وتبتسمُ. 
و(ربما) تعودُ ذاتَ يومٍ (ربما)  
من الحربِ، لتمشي معي في المساءِ
مرةً، نتكلّمُ عن لونجوي، لوتيك،
دميركيرك، ونبتسم بوقارٍ، يرجعُ
كلّ شيءٍ لسابقِ عهدهِ، ولا 
ينبسُ أحدٌ بكلامٍ عن خوفهِ،
عن خوفهِ وضعفهِ ذاتَ ليلةٍ بالحقلِ،
عن حبهِ. وبنُكتةٍ تطردُ خوفكَ،
الحربَ، الليالي العصيبةَ. ثم يُبرقُ 
الصيفُ عن صداقةٍ حَيِيّةٍ، في
ماضٍ باردٍ، لا يعودُ.  

(الرحلة)
 
لا تبتئس، فقريباً يحلّ الليلُ،
حيثُ نرى القمرَ الباردَ
يضحكُ في سرّهِ فوقَ ضاحيةٍ
ثقيلةِ الوطأةِ، ثم نرتاحُ، يداً بيدٍ.
لا تبتئس، فقريباً يحلّ الزمنُ،
حيثُ نرتاحُ. صُلباننا الصغيرةُ
سوفَ تنتصبُ معاً
على حرفِ الطريقِ المستنيرِ،
ويهطلُ المطرُ، والثلجُ يهمي،
تعصفُ الريحُ ثم تنقضي.

(الشاعر)

عليّ فقط، أنا المستوحشُ، 
تنيرُ نجومُ الليلِ بما لا نهايةٍ،  
يهمسُ نبعٌ جبليٌّ بنشيدهِ السحريّ، 
لي، وحدي، لي أنا المستوحشُ
ظلالُ الغيمِ الملوّنِ وهو يهيمُ
مرتحلاً كالأحلامِ عبرَ ضواحٍ ريفيةٍ
مفتوحةٍ. لا البيتُ ولا المزرعةُ،
ولا الغابةُ لا ميزةُ الصيدِ قد
مُنحَت لي، ما لي لا يخصّ
ما لغيري، الجدولُ الهجّامُ خلفَ
حجابِ الغابةِ، البحرُ المخيفُ،
طنينُ الطيرِ كالأطفالِ باللعبِ،
البكاءُ والغناءُ، لدى مستوحشٍ في
المساءِ، رجلٌ يعشقُ سراً.
لي معابدُ الأربابِ أيضاً، ولي
بساتينُ النبلاءِ في الماضي.
وليسَ أقلّ، قبابُ السماءِ في
المستقبلِ بيتي: تعصفُ روحي
غالباً بطيرانٍ من شوقِها لأعلى،
لتنظُرَ مستقبلَ المباركينَ، والحبّ،
يغلبُ القضاءَ، الحبّ من ناسٍ
لناسٍ. فأراهُم وقد تحوّلوا في نُبلٍ:
الملكُ، الفلاّحُ، التاجرُ، البحّارةُ
الشغّيلةُ، البُستانيّ، والراعي،
ويحتفلون جميعاً بمهرجانِ مستقبلِ
العالمِ. الشاعرُ وحدهُ المفقودُ،
المستوحشُ الناظرُ بارتيابٍ،
حَمّالُ أشواقِ البشريةِ، الصورةُ
الباهتةُ لإنسانِ المستقبلِ، إنجازُ
العالمِ حيثُ لا حاجةٌ بعدهُ.  
فلا أحدٌ يذكرهُ،
وتذوي على قبرهِ الأكاليلُ.  

 
   سيرة هيسه:



ولد الكاتب هيرمان هيسه (1877 ـ 1962) في بلدة كالو بألمانيا. يعود أصل أبيه لروسيا، وأصل أمه للهند. توقّع والداه أن يواصل عملهما في التبشير، لكنه طُرد من تعلّم اللاهوت، كما طُرد من التعليم العاديّ. عمل بمكتبة، ميكانيكياً، ثم انضمّ لجماعة أدبية. أثناءها، قرّر أن يصبح كاتباً. نشر أولى رواياته "بيتر كامنزند" 1904، وتزوّج ثم أنجب ثلاثة أبناء. زار الهند 1911 فأثمرت رحلته عن رواية "سدهارتا" (عن كاهن بوذيّ يتمرّد على تعاليم أبيه، ثم يجد التنوير والخلاص أخيراً)، وهي الرواية التي صارت هادياً ملهماً في أمريكا لجماعة شعراء Beat Generation. وللثقافة الهندوسية والصينية القديمة تأثير بالغ على ما كتب. كما خضع لعلاج نفسيّ على يد يونج ولانج أثّر في عدد من رواياته.   
قضّى سنين الحرب العالمية الأولى في سويسرا، وشارك ألدوس هكسلي بضرورة الخلاص الروحيّ للإنسان، فاتّهمه مواطنوه بالخيانة. مرضت زوجته نفسياً، وابنه بمرض عُضال. ثم أصدر روايته "دميان" (بطلها ممزّق بين وجوده البورجوازيّ وفوضى عالمه الحسيّ)، وقد امتدحها توماس مان واضعاً إياها في مصاف رواية جيمس جويس "عوليس" ورواية أندريه جيد "المزوّرون". ثم تزوّج نينو دولبين، المؤرّخة الفنية، عام 1931، وكانت تراسله وهي بعمر الرابعة عشرة، ثم صادفته بعد طلاقها من فنان تشكيليّ. بدأت حياته تستقرّ، ثم ساعد اللاجئين فوضعه النازيون على القائمة السوداء وقاطعوا أعماله عام 1943. 
بعد أن نال هيسه جائزة نوبل للآداب عام 1946، كفّ عن كتابة الرواية، لكنه كتب خمسين قصيدة ومراجعات نقدية، نشرها بالصحف السويسرية. وقد توفي هيسه عام 1962 بنزيف دماغيّ في نومه عن عمر يناهز الخامسة والثمانين. وفي ثمانينيات القرن 20 سرت عقيدة بين الشباب في العالم لحبّ روايات هيسه وأشعاره، ولا تزال الحركات الشبابية تعتبر هيسه واحداً من أفضل الكتّاب الألمان عبر العصور. ويعتبرهُ بعضهم سويسرياً، حيث نال الجنسية وقت هجرته هناك.
من دواوينه: "أغانٍ رومانسية" (1898)، "صور جائلة وقصائد" (1920)، "قصائد" (1942). ومن رواياته: "وراء العجلة" (1906)، "أصدقاء" (1908)، "جرترود" (1910)، "روسهالده" (1914)، "دميان" (1919)، "سدهارتا" (1920)، "ذئب البوادي" (1927)، "الموت والعاشق، أو نرسيس وجولدمند" (1930)، "لعبة الكريات الزجاجية" (1943). ومن قصصه: "كلاين وفاجنر" (1919)، أخبار غريبة من نجم آخر" (1919)، "كندرسيلي" (1920)، "الحكايات الخرافية الكاملة" (1995). ومن نثره: "رائي الفوضى" (1920)، "مراحل" (1942)، "كريج وفريدين، أو لو استمرت الحرب" (1946)، "مكتبة آداب العالم" (1953)، "عقيدتي: في الفن والحياة" (1976). ومن رحلاته: "رحلة إلى الشرق" (1932).  
هيرمان هيسه
قصائد: بالمستقبل، الشاعر وحدهُ المفقود
ترجمة : محمد عيد إبراهيم
- أبابيل - العدد الجديد- 44