٢٧‏/٧‏/٢٠١٠

 أحمد عكو

عن الشيخ عفيف الحسيني
(ذاكرة مكان)


قليلة هي اللحظات التي تحرك فيّ نسغ الكتابة، وتستدرجني بسرعة لبياض الورق، أنا ذاك البليد المتبلد. في تلك الليلة اللاهبة من تموز، لست أدري ماالذي ذكرني بالشيخ الجليل عفيف الحسيني، والد الشاعر محمد عفيف. قد يكون إحساسي بمرضه، أو أنه يريد أن يودعنا،لاقدر الله. أسرعت إلى الورقة البيضاء لأدون مشاعر طالما كانت تراودني. مرّ بخاطري طيفاً جميلاً منذ الصرخة الأولى التي أطلقتُها في عامودا، لتقذفني إلى الحياة "دادا سلطي"، جدة محمد عفيف، وجدتي زينب تحملني على ظهرها إلى الشيخ، كلما أحسست بوعكة صحية؛ لتتبرك به، وأخرج من عنده معافى، وأنال قبلة من خالتي بدرية.
* * * * *
ولد الشيخ عفيف عام 1930 في قرية تل موزان الأثري، إلى الشمال من سوريا. تتلمذ على يد أبيه، الشيخ محمدي موزا. درس الفقه واللغة في الجامع الأموي بدمشق، ثمّ عاد إلى عامودا، حيث الملا عبد اللطيف والملا عبدالحليم، صاحبا أكبر مدرسة فقهية في المنطقة.وقبلها السيدا الأكبر: عبيدالله؛ نال شهادة الإجازة، وكانت تعادل الليسانسالتي تخول صاحبها حمل لقب "سيدا"، أي أستاذ؛ أصيب منذ شبابه بمرض قرحة المعدة المزمنة، فظل معتكفاً في حجرته وبيته منذ نصف قرن. لم يخرج من عامودا ولا من حجرته، حيث كتبه وأصدقاؤه وطلبته. تتلمذ على يديه أغلب الكتاب والمدرسين وأنا واحد منهم. وهو العاشق للشيخ الاكبرمحي الدين بن عربي و الملا الجز يري والإمام البوصيري.
* * * * *
كنا صغاراً نذهب إليه في حجرته لنتزود بعلمه الثرّ ونتمثل بدماثة أخلاقه وسلاسة حديثه وروحه العالية المرحة ودعاباته الظريفة مع العلماء من أصدقائه. تمضي بنا الساعات،ونحن نستمتع بالاستماع إليه والتعلم منه. كما كانت حلقات الذكر الصوفي المهيبة بحضور ناقري الدفوف، والمنشدين لقصائد التصوف الكردي والعربي، أمثال الملا عبد الرحمن كُرِمي الضرير وميرحاج تغذي أرواحنا حتى أني صرت آنذاك َ، أنشدُ المدائح النبوية في فرقة الشيخ عبيد القادري الصوفية.
* * * * *
وكثيرا ما تردد على حجرته أغلبُ علماء عامودا يفتح كتابا أصفر، يسأل أحدهم عن معنى هذه العبارة أو تلك، عن إعراب هذه الكلمة أوتلك المسألة الفقهية الشائكة والحلّ عنده . بعد أن تتعالى الأصوات وتكال الاتهامات بالجهل وقلة الضلوع في العلم نصغي،نحن طلابه، بكل أ دب وخوف. ألف كتاباً عن فترة الفورة الثقافية في عامودا بعنوان (ضرب زيد عمراً، عن الحجرات في عامودا).

زاره في السبعينات المستكرد الهولندي الشهير(مارتن فان برونسن) وأخذ منه معلومات قيمة عن طرق التصوف في كردستان. طبع ذلك الكتاب بالانكليزية وكانت أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه وقد ذكر الشيخ فيه.

كما زاره الروائي الكردي المرحوم محمد أوزون وأهداه روايته الموسومة بـ مِرِنا كالكي رند- وجاء في الإهداء: إلى الشيخ عفيف الحسيني والشيخ عزالدين الحسيني.

لم يكتف بتراث اللغة والفقه بل اهتم بالكتابات الشبابية، وكان يبدي رأيه فيها، أحبّ أدونيس في قراءته للتراث، وسليم بركات في رواياته، وطه حسين في الأدب الجاهلي.

نشر في مجلة الرسالة المصرية لصاحبها أحمد حسن الزيات.
* * * * *
علمنا الأخلاق قبل أن يعلمنا الأدب والفقه، زرع المحبة والصبر في قلوبنا. لم يختبىء وراء عمامة مفخخة بالكلمات المنمقة كعهدي بغيره، لم يلق خطبة معلبة. كان متجلياً في ذاته، يكتب للمريض المتوسل شفاءاً؛ "اللهم اشفه واحمه من أذى الناس".على غير عادة الأحجية العجيبة، ذات الطلاسم الغريبة، التي لا تختلف عنها وصفات الطب في أيامنا هذه. كان غنياً في عطائه، لم يبخل علينا بشيء، نحن الذين تعلمنا القراءة والكتابة منه، ولا أحد ينكر فضله من المهتمين باللغة والأدب والفقه. علمنا كيف نمسك بالقلم ونتسلق الحروف، بأخطائنا وارتباكنا على الورق. ولطالما أخذ بأيدينا ونحن نستخدم هذا القلم، رمى قصيدة البردة بين يدي مرة وأنا صغير لأنثرها، حاولت لكنني لم أفلح. صرت رساماً بعد ذلك، محمد صار شاعراً. كبرنا وانتشرنا في الأصقاع، تغيرت مفاهيمنا،عاداتنا وسلوكنا. ولم يتغير شيخنا الجليل. مازال بجسمه النحيل، قابعاً في مكتبه الملاصق للبيت، حاملاً قلبه الكبير ودعابته المعهودة ونظارتيه السميكتين؛ حزيناً على أصدقائه الذين رحلوا وطلابه، يرقب عودتهم. أولئك البعيدين والمشتتين في المنافي والحياة الصعبة، الضائعين وراء الأوهام والسراب والأحلام الموؤدة.

أنت في قلوبنا دائماً، أيها الأب الكبير، والأستاذ القدير، والمرجع الأساسي في الجزيرة، بالشريعة والفقه والتصوف والأدب. أيّها اللغوي البارع، لك كل المحبة والوفاء.

 اللوحة للفنان خليل عبدالقادر 1979